مقدمة بقلم شربل بعيني

 
لم أصدق عينيّ حين وجدتُ في بريدي الإلكتروني رسالةً من الشاعرة المصرية الكبيرة "فاطمة ناعوت" تخبرني بها عن وصولها إلى أستراليا، ونزولها في أحد الفنادق الفخمة، فما كان مني إلا أن اتصلتُ بإدارة الفندق التي حولتني إلى هاتف غرفتها ليصدح صوتها الجميل:
ـ ألو.. مين معي؟
ـ شربل بعيني..
ـ كيف حالك يا أخي شربل.. أنا مشتاقة لك كثيراً.
ـ سآتي الليلة مع رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ إيلي ناصيف لاصطحابك إلى سهرة مع رئيس وزراء أستراليا "طوني أبوت" والوزير "فيليب رادوك”.. وباقي الوزراء الأستراليين، والعديد من النواب والشخصيات الاجتماعية والسياسية والفكرية.
ـ وفي أية ساعة تريدني أن أكون جاهزة؟
ـ الثامنة مساء.
ـ سأنتظرك.
   وعندما دخلت الفندق مع الصديق الغالي إيلي التقينا برئيس وزراء ولاية نيو ساوث ويلز السيد باري أوفيرولد، كان يتطلع شمالاً ويميناً وكأنه يبحث عن شيء ما دون جدوى، فسأل أحد موظفي الفندق عن مكانه الضائع، فدله عليه دون أن يلتفت له، وكأنه لا أحد على الاطلاق. فاقترب منه إيلي وسأله:
ـ مستر أوفيرولد.. ألن تحضر حفلة الوزير فيليب رادوك الليلة؟
فقال وهو يهز رأسه:
ـ لا.. أنا مرتبط بحفلة زواج.
   فهمست بأذن ايلي:
ـ هل رأيته كيف يتجوّل ضائعاً في أرجاء الفندق دون أن يكترث به أحد، حتى االعامل الفقير دله على القاعة دون أن يلتفت له، إنه رئيس وزراء ولايتنا هذه!
ـ أف يا شربل.. ماذا كان سيحدث لو مر رئيس وزراء أصغر دولة في الوطن العربي؟
ـ أتمنى أن لا يمرّ.
وما أن أنهيت عبارتي هذه حتى أطلت شمسُ مصر وصوتها الداوي السيدة فاطمة ناعوت.
كانت أجمل من كل الصور التي التُقِطت لها ونشرت على الانترنت، فقلت في سري وأنا أحدق بفاطمة الجمال والعلم والادب:
ـ كيف يجروء بعض البلهاء التفهاء السفهاء المتزمتين على إدراج اسمها ضمن لائحة "هدر دم" من 37 شخصية قيادية في مصر الحبيبة بغية التخلص منها أينما كانت وأنّى وجدت؟
ومن دون أن ألفت انتباهها مسحتُ دمعة أحرقت وجنتي، واتجهت نحو السيارة.
وبينما كنّا نقطع المسافة بين الفندق ومكان الاحتفال، أخبرتُها قصة ضياع رئيس وزراء ولاية نيو ساوث ويلز، فقالت بإصرار بالغ:
ـ نحن في مصر على استعداد أن نضحي ونموت كي نصل إلى هذا المستوى من الرقي الديمقراطي.. وسنصل يا شربل.. سنصل.
   وبعد هذا الكلام سأتوقّف عن الكلام. لأبدأ بتكريم من تستأهل التكريم، كيف لا، وهي التي تحمل دمَها على كفّها، كما يقول المثل الشعبي، بغية انقاذ شعبها من مرارة العيش والاضطهاد والغدر.
   هم يحملون أدوات الموت، يخيفون بها الشرفاء، ويزهقون الأرواح البريئة، وهي تحمل القلم، أداة الحياة، لترد به خوفَ القبور عن أولئك الشرفاء.
   هي امرأة، وهبها الله مِنّة الخلق، وهم رجال ملتحون، ابتلاهم الجهلُ بعقول صغيرة، وقلوب حقيرة، ليقضوا على كل ما هو جميل.
   لذلك، قررنا، معهد الأبجدية في جبيل ومؤسسة الغربة الاعلامية في سيدني، منحها "جائزة شربل بعيني لعام 2013" لتنضم إلى العديد من المبدعين الذين تشرّفت بهم الجائزةُ لسنوات عديدة. وقد سلّمها إياها الإعلامي "جوزاف بو ملحم”.
  "فاطمة ناعوت.. قبل أن نعلّق ميدالية الجائزة على صدرك، تعلّقت قلوبُنا بك، لدرجة لم نعد نعرف بعدها: أقلوبنا هي التي تنبض أم قلبك الكبير. حماكِ الله.”
   هذا الكلام كتبتُه ونشرته عام 2013، أي أثناء زيارتها الأولى لمدينة "سيدني"، ألحقتُه بنشر ديوان "فافي" تكريماً لها، وقد أحدثت قصائدُه ضجّةً اعلامية كبرى، نظراً لصدقها، وعذوبة صياغتها.
   وكما ترون، وأنتم تطالعون الكتاب، أن معظم مقالاته جاءت كتعليقات لشاعرتنا الجبرانية، تشكر بها معظم الذين أعطوا "فافي" عصارة أفكارهم، وزخم محبتهم، وحسن التفاتتهم.
   أما في العام 2014، فلقد أطلّت مرّة ثانية على سيدني لاستلام جائزة "جبران العالمية"، التي مُنحت من قبل لفيروز، ونزار قباني، وعبدالوهاب البياتي، ونوال السعداوي، وعصام حداد، ونعمان حرب، ومحمد زهير الباشا، وغيرهم من المبدعين العالميين والعرب. وقد طلبت مني "رابطة إحياء التراث العربي" تقديمها بثلاث دقائق فقط فقلت:
"طلبتْ مني رابطة إحياء التراث العربي بشخص رئيسها الأستاذ "إيڤ الخوري" أن أُعرّفَ بضيفةٍ عزيزةٍ حلّت بيننا.. ويا ليتني رفضت، إذ ليس من حقّ الغربة أن تعرّفَ بالوطن.. وليس من حقّ الظلامِ أن يقترنَ اسمُهُ بنورٍ يُلهبُُ الدفءَ في القلوبِ ليُوزعَه على أكواخ الفقراء، كلما هددتهم الطائفيّة بالموت المُخجل. 
أجل أيها السيدات والسادة. أجدُ صعوبةً كبرى بالتعريفِ بمن أمسكت المجدَ من جميع أطرافه، فهي شاعرة، وأديبةٌ، وإعلامية، ومترجِمة، ومهندسة، ومناضلة، وإنسانة، وأم.. 
سيرتها الإبداعية من مؤلفات وترجمات ومؤتمرات وجوائزَ وتكريمٍ، لهي كتابٌ كاملٌ، فكيف لي أن أختصرَ الكتابَ بثلاث دقائق؟! 
حرفـُها بركانٌ.. يرتجف من صوته الحكّامُ الظالمون. تُعلّقه في ميدان التحرير صرخةً، وتحمله على الطرقات يافطةً، وتُهديه للحناجر أغنيةً ثورية. 
أمومتُها أرضٌ.. تَحرثها مع الفلاحين.. تبذرها قمحاً.. تجنيها خبزاً.. لتُطعمَه للجياع إلى الحرية. 
هندستُها طبيعةٌ.. تنقلُ الأهراماتِ إلى سيدني، والأوبرا هاوس إلى مصر، دون أن يرفّ جفنُ الخالق.. أو أن تتأففَ الجغرافيا.. 
هي المالكةُ للجمال، وهي المتحكمةُ به. خصّها الُله بالكلمة.. وكانَ اللهُ الكلمة. 
سَحَرَتْها محبّةَُ جبران خليل جبران التي "إن أومأتْ إليكم فاتبعوها"، فكتبتْ في عيد الحب: "سنعلنُ الحبََّ عليكم أيها الأشرار، ولن نتعلمَ منكم البغضَ والكراهية". 
وما أن رفعت صوتَها كامرأةٍ حُرّةٍ فوق أصوات أعداء الانسانية، وصاحتْ: إخْرَسوا. حتى أدرجوا اسمَها على لوائح الموت، وعندما يئسوا من التخلّص منها، جرّوها إلى المحاكم بتهمة ازدراء الدين.. ومَنْ غيرُها يشرفُ الدين؟! 
فما كان منّا إلا أن أصدرنا لها مجموعةً أدبية تكريمية بعنوان: "الملائكةُ تهبـِط في سيدني" لتوقّعَها ليلَ الاربعاء القادم في السادس والعشرين من نوفمبر في غرانڤيل تاون هول. فكونوا معها. 
وها هي الليلةَ تأتي إلينا من أمّ الدنيا، ليتجسّدَ الشعرُ والأدبُ والنضالُ ومحبّةُ جبران خليل جبران بامرأة واحدة.. أنجبتها مصرُ وأسمتها: فاطمة ناعوت.” 
   ولأنني أتقيّد بالوقت الممنوح لي، فلقد حذفتُ الكثير من التقديم، وخاصة بعض عبارات وصفتْ فيها فاطمة ناعوت الشاعرَ بدقة متناهية مثل:
الشاعرُ كونٌ كامل. 
بشرٌ، وأرض، وسماء، وطبيعة 
وبراكينُ، ونارٌ، ونور 
والُله فوق كل هذا. 
فهل يحتاجُ الشاعرُ إنساناً رفيقاً؟
كتبُه الكثيرة بشرٌ حاشدون. 
يتلصصون عليه..
فلا تظنن أنه وحيد، 
هو مزدحم وكثير 
وشعب كامل.
   الكلام الذي ذكرت سابقاُ هو لها، أرسلته لي في إيمايل مبارك وجميل، ولست أدري إذا كانت تحتفظ به أم لا. أردت أن أبدأ به التعريف بفاطمة، بعد أن أضفتُ إليه ما يلي:
الشاعرُ نور..
يضيء ظلمات الأحبّة
بقناديل العشق..
بشموع لا تنطفىء
إلا ساعة الفراق.
**
هو البشر..
منذ القبيلة الأولى..
كان الصوتَ.. 
وكان عمرو بن كلثوم:
"ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا"
كان الفخرَ والبطولةَ،
وكان المتنبي:
"الخيلُ والليل والبيداء تعرفني
والسيفُ والرمح والقرطاس والقلمُ"
كان الحب..
وكان نزار قبّاني:
"أخاف أن أقول للتي أحبّها.. أحبُّها
فالخمر في جرارها تخسر شيئاً عندما نصبّها"
هو محبّة جبران خليل جبران
التي "إن أومأت اليكم فاتبعوها"
هو الشعراء أجمع..
على امتداد دواوينهم الملونة 
كذيل طاووس رائع،
أو كقوسِ قزحٍ خجول.
**
وأخيراً..
هو السماء..
فما من نجمة أطلّتْ
في أفراح المحبين
إلا وكانت قلبه..
وما من قمر أضاء ليل العاشقين
إلا وكان وجهه..
**
الشاعرُ يبقى ناقصاً
إن لم تدخله تاءُ التأنيث..
فإن دخلته..
أصبح الشاعرُ شاعرةً
فيتجسد المتنبي 
ونزار قباني 
وعمرو بن كلثوم
وجبران خليل جبران
بامرأة واحدة.. أسمتها مصرُ:
فاطمة ناعوت 
 كتبتُ قصائدَ كثيرة بـ "فافي" ولكنني لم أستطع أن أجاريها روعة فيما كتبتْ عني. وأجزم أن أدب فاطمة ناعوت في هذا الكتاب هو الأصدق والأجمل، لأنه تلقائي، أنثوي، وأبعد ما يكون عن التزلّف.
لقد صدقتْ فاطمة حين قالت: "حذار أن تصادقَ شربل بعيني"، لأنني لن أرضى من أصدقائي كلاماً إلا ذا كان بمستوى كلامها. ولا محبة إلا إذا كانت تشعُّ كمحبة شمس مصر. 
أجل، ستظل فاطمة ناعوت الاسم الأجملَ الذي مرّ على لساني، وزيّن صفحات غربتي.
شكراً يا أحلى "فافي" على تخليدك لي، أنا الغارقُ في الحنين والألم.
**